أغمضت عينى لا إرداياً لمّا سقط الكتاب من يدى وجلست على الأرض أجر ظهرى بجانبى ، اتأمل غرفة غريبة غير التى كانت تعيش بداخلى من قبل..أوراق تعتلى الجدران عليها أشياء غريبة لم أقوى على قرائتها لمّا دققت النظر لها، مكتب ما زال مُحتفظ بوظيفته رغم ما فُعل به، وبرواز تخرج منه إبتسامة رقيقة تشبه إبتسامة سلوى.. الباب ما زال مُغلقاً.. والحقيقة ما زالت تائهة !!
وبعد لحظات صارعت فيها الكسل وجدت نفسى فى الحمّام تنهال علىّ قطرات المياه فى حوض الإستحمام مداعبه الضوء المنبعث من شباكه الذى يطل على المطبخ، فالحمام لمباته محروقة ولها أكثر من عام تحتضن الدويل القلاووظ، تتراقص فى آذنى اليسرى أنغاماً لعود وجد من يجتذب أوتاره.. وأذنى اليُمنى يملئها صخب الشارع ويعلوهما صوت طبلة أبى، دقات مُنتظمة تخترق أذنى ، تعلو فى كل مرة وتزداد قوة.. ارتعش جسدى ودمعت عيناى حين أُدركت انه لم يعد لى دهرٌ من الآن، ما زالت تتردد فى أذنى حتى الآن.
توفى إلى رحمة الله تعالى الحاج جاد عبد الكريم المسحراتى والد كل من محمد جاد عبد الكريم و مُراد جاد عبد الكريم وشقيق الحاج منصور عبد الكريم، والدفنة بعد صلاة العصر والعزاء قاصر على المقابر..
- آلو .. مين معايا
- مين معايا
- البقاء لله يابنى، شد حيلك
- مش سامع.. عَلّى صوتك
وقتها لم أعد بحاجة لوضوح الصوت، قفز فى آذنى صوت عالى يُردد خبر الوفاة، (توفى إلى رحمة الله تعالى الحاج جاد عبد الكريم المحسراتى....) أتى من سماعات يضعوها على سيارة نصف نقل تسير فى الشوارع لإخبار أهل القرية والقُرى المجاورة بحالات الوفاة
- أبوك مات يا مُراد
مواساة جرداء باهتة وزفة من الدموع والعويل لم تفعل شيئاً سوى انها آلمتنى أكثر.. حين تُدرك العُمق وتتوغل بأطرافٍ تأبى التقدم فى مسيرة يتحاشها عقلٌ يركض بشدة فى الماضى، وقتها ستصبح رأسٌ بلا فم وجسدٌ بلا أرجل..
اليوم أول أيام الشهر الكريم، أول رمضان بدون أبى...
أكملت هذا الحمام البارد وخرجت مُسرعاً من هذا المُكعب الضيق، بعد خروجى جَلست مُكبراً لآيات النظام الأسطورى الذى يجعلك تعتصر بكاءاً وندماً على حياتك القذرة، وزحفت على أرضية شفافة اُغتُصبت من قبل.. تستطيع ان ترى منها قاع الجحيم حتى وصلت إلى غرفتى.. تباً لحياة العُزاب !!
نظرت إلى المنضدة الوحيدة فى الغرفة، تقف فى عزة بثلاثة أرجل ونصف..أكملت لها النصف الباقى بقالب طوب أبيض ليكون سند لها باقى عُمرها، وجدت عليها طبق به بقايا طعام أول أمس وهاتفى المحمول بجانبه، أمسكت بالهاتف وطلبت رقم أمى.. أين صوتها، ثوانى وجاء صوتها
- ازيك يا ضنايا.. كل سنة وانت طيب
- الحمد لله يا حَجّة، بعودة الأيام.. طمنينى عليكِ
- فضل ونعمة يابنى
- محمد ومراته عاملين ايه معاكى ؟؟
- كويسين مش ناقصنا غيرك يا مُراد
- هانت يا ست الكل، كلها كام أسبوع واجمع كل مصاريف الكلية واجى اقعد معاكى لغاية الدراسة
- ربنا يقويك ويكرمك يابنى
- وحياة النبى يا امّا لو احتجتى حاجة تبقى تكلمينى
- حاضر يا حبيبى، خد بالك من نفسك انت بس
- حاضر.. فى رعاية الله يا حَجّة، مع السلامة
انتهت المكالمة التى هونت علىّ فقدانهم جميعاً. لكنى نسيت ان اسئلها عن إقتناع محمد بإمتهان مهنة أبيه حتى لا يأخذها منا أحد، فهى تأتى لنا برزق جيد كل سنة، آخر مرة تناقشنا فى هذا الموضوع لمحت في عيناه كِبرٌ فى جملة رددها كثيراً دون أن يُحرك شفتاه "كيف لى أن أسير ليلاً أدق على طبلة لأوقظ أناساً لا يكترثون لطبلتى من الأساس، عادات رتيبة جوفاء) كان هذا رأيه دائماً حين يغضب من أبى ويأتى ليحكى لى، كانت تصدر منه كلمات تحيطها فروعاً من التبريرات " ليه ميشتغلش شغلانة تانية.. محدش بيستنى الطبلة دلوقتى، احنا فى 2012 يا ناس " ، " مينفعش يا مُراد يكون دخلنا طول السنة من شغلانة فى 30 يوم بس، أبوك لازم يشوف حاجة تانية جنب موضوع المسحراتى ده "
توقفت الوساوس عن العبث برأسى لأنى أعرف محمد جيداً، هو ليس بغبى أو ساذج لهذه الدرجة، فهو يعرف ان أمى بحاجة لهذا المبلغ الذى يأتى فى نهاية هذا الشهر، محمد عصبى ومندفع لكنه أبيض القلب.. وسيخرج للعمل كأنها وظيفة إضافية له هذا الشهر فقط، أنا متأكد من هذا.
ألقيت بهاتفى على السرير و وقفت أمام المرآة أتحسس ذقنى التى رأيت فيها تجسيد حقيقى لقشرة التين الشوكى فيما قبل عصور النهضة، عيناى قد برزت إلى الخارج كسطر تتدلى من طفل فى المرحلة الثانوية غير قادر على كتابة اسمه.. نحيل أنا بالوراثة، وتعلو أسنانى صبغة صفراء قد توصلوا الأطباء الخبراء الذين يتخفون فى زى أصدقائى انها من كثرة تناول الشاى والقهوة وفريق أخر كاد أن يُجزم بأنها من قلة إستعمال السواك.. هؤلاء هم من اُطلق عليهم الآن (معرفة) اجتمعنا يوماً ما على لعب الكرة والأتارى والبلايستيشن والمذاكرة ليلاً على أضواء الأقمار الصناعية، لمست شعرى كعادتى حين أريد أن اتناسى شيئاً، وجدته يتخذ قضباناً من الشعيرات البيضاء، تقدمت خطوة للأمام أفرق بيدى بين خصلات شعرى أتبين أماكن هذه القلة المُندسة
سحبنى من شرودى صوت جرس الباب كمن يسحب أخر نفس فى سيجارته الأخيرة، نظرت عبر ثقب وُجد عن عِمدٍ من نجار الدرجة الثالثة الذى يُصلح لنا توالفنا، ها هو صديق الغربة المحلية الذي اتى سعياً وراء أجور تركيب السيراميك لذوى المال والنفوذ، وأحياناً ما يلحق بالأجور من فطار فاخر ومشروبات لم ولن نجدها يوماً فى القرية.. رامى، رفيق الأمل والضياع، باعث البهجة فى أحلك الأوقات، أنا أصغرمنه سناً، رامى حاصل على دبلوم فنى صناعى قسم لحام، له أكثر من ثلاثة أعوام يعيش فى القاهرة ، هو من عرض علىّ أن أسكن معه فى هذه الشقة عندما عَلِم أن جامعتى ستكون فى القاهرة، كلية التربية جامعة عين شمس، كانت هذه أمنية والدى التى اختلفت دائماً مع طموحاتى
فتحت له الباب، دخل ودخلت معه رائحة اشتقنا لها منذ مُدة طويلة
- اوعى تقول اننا هنفطر اللى أنا شامم ريحته ده
- ايوة يا سيدى، اومال جايبينه زينة يعنى
- بركاتك يا رمضان.. طب ايه؟ فى شغل جديد؟
- أكيد.. كنت قاعد مع مرزوق تحت، كلمونى من الشركة وقالولى هننزل فيلا فى التجمع الخامس
- يعنى انت مروحتش الشركة !! طب الفلوس دى جبتها منين يابنى؟
- ياعم استلفتها من مرزوق، طالما عرفنا ان فى شغل لازم نمنجه نفسنا وناخد باور عشان نعرف نشتغل
- ماشى ياعم الباور.. روح حطه فى التلاجة بقى، وخليك فاكر انت اللى عليك الدور النهاردة
- ربنا على المُفترى
***************