الثلاثاء، 3 سبتمبر 2013

ما قبل البداية 2

أغمضت عينى لا إرداياً لمّا سقط الكتاب من يدى وجلست على الأرض أجر ظهرى بجانبى ، اتأمل غرفة غريبة غير التى كانت تعيش بداخلى من قبل..أوراق تعتلى الجدران عليها أشياء غريبة لم أقوى على قرائتها لمّا دققت النظر لها، مكتب ما زال مُحتفظ بوظيفته رغم ما فُعل به، وبرواز تخرج منه إبتسامة رقيقة تشبه إبتسامة سلوى.. الباب ما زال مُغلقاً.. والحقيقة ما زالت تائهة !!

وبعد لحظات صارعت فيها الكسل وجدت نفسى فى الحمّام تنهال علىّ قطرات المياه فى حوض الإستحمام مداعبه الضوء المنبعث من شباكه الذى يطل على المطبخ، فالحمام لمباته محروقة ولها أكثر من عام تحتضن الدويل القلاووظ، تتراقص فى آذنى اليسرى أنغاماً لعود وجد من يجتذب أوتاره.. وأذنى اليُمنى يملئها صخب الشارع ويعلوهما صوت طبلة أبى، دقات مُنتظمة تخترق أذنى ، تعلو فى كل مرة وتزداد قوة.. ارتعش جسدى ودمعت عيناى حين أُدركت انه لم يعد لى دهرٌ من الآن، ما زالت تتردد فى أذنى حتى الآن.

توفى إلى رحمة الله تعالى الحاج جاد عبد الكريم المسحراتى والد كل من محمد جاد عبد الكريم و مُراد جاد عبد الكريم وشقيق الحاج منصور عبد الكريم، والدفنة بعد صلاة العصر والعزاء قاصر على المقابر..
- آلو .. مين معايا
- مين معايا
- البقاء لله يابنى، شد حيلك
- مش سامع.. عَلّى صوتك

وقتها لم أعد بحاجة لوضوح الصوت، قفز فى آذنى صوت عالى يُردد خبر الوفاة، (توفى إلى رحمة الله تعالى الحاج جاد عبد الكريم المحسراتى....) أتى من سماعات يضعوها على سيارة نصف نقل تسير فى الشوارع لإخبار أهل القرية والقُرى المجاورة بحالات الوفاة

- أبوك مات يا مُراد

مواساة جرداء باهتة وزفة من الدموع والعويل لم تفعل شيئاً سوى انها آلمتنى أكثر.. حين تُدرك العُمق وتتوغل بأطرافٍ تأبى التقدم فى مسيرة يتحاشها عقلٌ يركض بشدة فى الماضى، وقتها ستصبح رأسٌ بلا فم وجسدٌ بلا أرجل..

اليوم أول أيام الشهر الكريم، أول رمضان بدون أبى...
أكملت هذا الحمام البارد وخرجت مُسرعاً من هذا المُكعب الضيق، بعد خروجى جَلست مُكبراً لآيات النظام الأسطورى الذى يجعلك تعتصر بكاءاً وندماً على حياتك القذرة، وزحفت على أرضية شفافة اُغتُصبت من قبل.. تستطيع ان ترى منها قاع الجحيم حتى وصلت إلى غرفتى.. تباً لحياة العُزاب !!

نظرت إلى المنضدة الوحيدة فى الغرفة، تقف فى عزة بثلاثة أرجل ونصف..أكملت لها النصف الباقى بقالب طوب أبيض ليكون سند لها باقى عُمرها، وجدت عليها طبق به بقايا طعام أول أمس وهاتفى المحمول بجانبه، أمسكت بالهاتف وطلبت رقم أمى.. أين صوتها، ثوانى وجاء صوتها

- ازيك يا ضنايا.. كل سنة وانت طيب
- الحمد لله يا حَجّة، بعودة الأيام.. طمنينى عليكِ
- فضل ونعمة يابنى
- محمد ومراته عاملين ايه معاكى ؟؟
- كويسين مش ناقصنا غيرك يا مُراد
- هانت يا ست الكل، كلها كام أسبوع واجمع كل مصاريف الكلية واجى اقعد معاكى لغاية الدراسة
- ربنا يقويك ويكرمك يابنى
- وحياة النبى يا امّا لو احتجتى حاجة تبقى تكلمينى
- حاضر يا حبيبى، خد بالك من نفسك انت بس
- حاضر.. فى رعاية الله يا حَجّة، مع السلامة

انتهت المكالمة التى هونت علىّ فقدانهم جميعاً. لكنى نسيت ان اسئلها عن إقتناع محمد بإمتهان مهنة أبيه حتى لا يأخذها منا أحد، فهى تأتى لنا برزق جيد كل سنة، آخر مرة تناقشنا فى هذا الموضوع لمحت في عيناه كِبرٌ  فى جملة رددها كثيراً دون أن يُحرك شفتاه "كيف لى أن أسير ليلاً أدق على طبلة لأوقظ أناساً لا يكترثون لطبلتى من الأساس، عادات رتيبة جوفاء) كان هذا رأيه دائماً حين يغضب من أبى ويأتى ليحكى لى، كانت تصدر منه كلمات تحيطها فروعاً من التبريرات  " ليه ميشتغلش شغلانة تانية.. محدش بيستنى الطبلة دلوقتى، احنا فى 2012 يا ناس " ، " مينفعش يا مُراد يكون دخلنا طول السنة من شغلانة فى 30 يوم بس، أبوك لازم يشوف حاجة تانية جنب موضوع المسحراتى ده "

توقفت الوساوس عن العبث برأسى لأنى أعرف محمد جيداً، هو ليس بغبى أو ساذج لهذه الدرجة، فهو يعرف ان أمى بحاجة لهذا المبلغ الذى يأتى فى نهاية هذا الشهر، محمد عصبى ومندفع لكنه أبيض القلب.. وسيخرج للعمل كأنها وظيفة إضافية له هذا الشهر فقط، أنا متأكد من هذا.

ألقيت بهاتفى على السرير و وقفت أمام المرآة أتحسس ذقنى التى رأيت فيها تجسيد حقيقى لقشرة التين الشوكى فيما قبل عصور النهضة، عيناى قد برزت إلى الخارج كسطر تتدلى من طفل فى المرحلة الثانوية غير قادر على كتابة اسمه.. نحيل أنا بالوراثة، وتعلو أسنانى صبغة صفراء قد توصلوا الأطباء الخبراء الذين يتخفون فى زى أصدقائى انها من كثرة تناول الشاى والقهوة وفريق أخر كاد أن يُجزم بأنها من قلة إستعمال السواك.. هؤلاء هم من اُطلق عليهم الآن (معرفة) اجتمعنا يوماً ما على لعب الكرة والأتارى والبلايستيشن والمذاكرة ليلاً على أضواء الأقمار الصناعية، لمست شعرى كعادتى حين أريد أن اتناسى شيئاً، وجدته يتخذ قضباناً من الشعيرات البيضاء، تقدمت خطوة للأمام أفرق بيدى بين خصلات شعرى أتبين أماكن هذه القلة المُندسة

سحبنى من شرودى صوت جرس الباب كمن يسحب أخر نفس فى سيجارته الأخيرة، نظرت عبر ثقب وُجد عن عِمدٍ من نجار الدرجة الثالثة الذى يُصلح لنا توالفنا، ها هو صديق الغربة المحلية الذي اتى سعياً وراء أجور تركيب السيراميك لذوى المال والنفوذ، وأحياناً ما يلحق بالأجور من فطار فاخر ومشروبات لم ولن نجدها يوماً فى القرية.. رامى، رفيق الأمل والضياع، باعث البهجة فى أحلك الأوقات، أنا أصغرمنه سناً، رامى حاصل على دبلوم فنى صناعى قسم لحام، له أكثر من ثلاثة أعوام يعيش فى القاهرة ، هو من عرض علىّ أن أسكن معه فى هذه الشقة عندما عَلِم أن جامعتى ستكون فى القاهرة، كلية التربية جامعة عين شمس، كانت هذه أمنية والدى التى اختلفت دائماً مع طموحاتى

فتحت له الباب، دخل ودخلت معه رائحة اشتقنا لها منذ مُدة طويلة

- اوعى تقول اننا هنفطر اللى أنا شامم ريحته ده
- ايوة يا سيدى، اومال جايبينه زينة يعنى
- بركاتك يا رمضان.. طب ايه؟ فى شغل جديد؟
- أكيد.. كنت قاعد مع مرزوق تحت، كلمونى من الشركة وقالولى هننزل فيلا فى التجمع الخامس
- يعنى انت مروحتش الشركة !! طب الفلوس دى جبتها منين يابنى؟
- ياعم استلفتها من مرزوق، طالما عرفنا ان فى شغل لازم نمنجه نفسنا وناخد باور عشان نعرف نشتغل
- ماشى ياعم الباور.. روح حطه فى التلاجة بقى، وخليك فاكر انت اللى عليك الدور النهاردة
- ربنا على المُفترى

***************

الثلاثاء، 9 أبريل 2013

إنسانية مُهدرة وطفولة مشوّهة في مكامر الفحم بالبصيلى

تحقيق : سارة حراز - محمود جمعه


تجبرك الرائحة على حبس أنفاسك  كلما مررت على طريق  مدينة ادكو حيث تمـر السيـارة على منطقة ( البصيلى ) تسمى  المنطقة هناك - بمناجم الفحم - منطقة يعيش سكانها على مهنة ورثوها عن أجدادهم وتعتبر مصدر حياة لأغلب السكان ، وهى تحويل الأخشاب إلى فحم فأمام كل بيت يوجد تلال من الأخشاب التي يحولها السكان بطريقة ما إلى فحم ، حقيقة لن يصدقها إلا من مر من هناك ورأى بعينه حقيقة الأمر بل وكتم أنفاسه خشية تلك الرائحة ليكتمل إحساسه بمعاناة أهالى هذه المنطقة.

مهنة تستلزم خطوات تحمل بين ثناياها آدمية تُهدر عمداً لمن يعملون بها ومن لا يعملون، فى البداية تجمع قطع الخشب وتغطى بالتراب الأسود مع وجود نار بسيطة في الأسفل لتلتهم بهدوء في بقية الخشب المغطى وتظل مشتعلة لمدة تتراوح ما بين 10الى 15 يوماً ليتحول الخشب إلى فحم وتطفأ المكمرة بالماء لتخرج بعدها الإنبعاثات والأدخنة بدرجة تكفى لإقناعك فعلياً انك تسير فى نفق مظلم لا تستطيع تحديد معالمه، وتكاد لا ترى يديك من هذا الدخان ليهدأ ويبدأ في التسلل لصدور كل قاطنى المنطقة ليفعل فعلته ويرحلوا هم ويبقى هو ليقوم بدوره مجدداً.

وأوضح ساكني المنطقة أنها الصنعة الأساسية لهم بخلاف فصل الشتاء الذي يحول ممارسة المهنة بسبب الأمطار وبجانب ذلك ينفقون عليها من حسابهم الخاص ، وفى بعض الأحيان يدفع لهم بعض الأفراد أموالاً كنوع من التجارة في الفحم وتجنباً للتلوث قام الاهالى بعمل مكمرة مجهزة بفوهة لتحمى سكان المنطقة والمشتغلين بها من أضرار الدخان، و وصلت تكلفتها إلى حوالي 70 ألف جنية وفشلت لعدم الخبرة الكافية والإمكانيات اللازمة لها.

ضد الحكومة

(سنكون يد واحدة إذا حاولت الحكومة هدم أكل عيشنا) اتفق على هذا الكلام ساكني هذه المنطقة بعد  حالات اليأس والفشل الذريع من قبل الدولة في معالجة هذا الأمر وذلك بعد مطالبتهم من مجلس الشعب السابق وليس المنحل في توفير مكان لممارسة هذه المهنة الشاقة أو حتى توفيرفرص عمل بسيطة وبديلة لهذه المهنة من أجل حياة كريمة وهى أبسط حقوقهم .

وصل المواطنين لهذه الحالة بعد فشل الإعلام في تناول القضية فعلى حد قولهم أن قناة الحياة ذهبت إلى هناك وقامت بالتصوير معهم وعلى الجانب الآخر قام الاعلامى محمود سعد بإلقاء الضوء عليهم ولكن فوجئ الناس بشن حملات عليهم بعد ذلك وخصوصاً من جهاز حماية البيئة حتى وصل الأمر على حد قول البعض هناك أن كل مواطن لدية محامى خاص به ليتفاوض له فى أمر المحاضر التى يحررها لهم جهاز حماية البيئة.

وأكد المواطنين بأن الأطفال يعانون من حساسية الصدر التي تزداد سوءاً مع نزلات البرد ومع سؤالي لأحد سكان المنطقة عن كيفية تحمل الأطفال لمثل هذه الرائحة التي أكاد اختنق منها ، فأجابنى بنفس اللفظ ( الأطفال اتبرمجوا على كدا وهنعمل إيه ما إحنا طالبنا بتوفير مكان بس محدش بيحس بينا ودلوقتى مفيش دولة ) .
هذه البيئة فرضت على الأطفال واقع لا يريد احد أن يحلم به وحرمتهم من أمتع لحظات حياتهم وكل ذلك بسبب غياب العقل والقلب لدى المسئولين في العهد البائد والحاضر.

مستقبل بلا ملامح

واتفق ساكني المنطقة على فقدان الأمل في المسئولين ولكن ما زالوا في انتظار عدالة السماء لتحقيق أحلامهم في يوم من الأيام ، ولكن ماذا ننتظر من طفل شوّهت طفولته ورجل فقد صحته وأم ضاع عمرها بلا جدوى فكل عائلة هناك عليها مليون علامة استفهام ومليون علامة تعجب ؟!

قرية بأكملها ليست السابقة في أمرها ولا الحدث الأخير في هذا البلد تعيش على هذه الصنعة التي ورثوها منذ القدم ولا تطالب إلا بحقها الطبيعي فى الحياة، في ظل غياب الحكومة الحالية وتعنت الحكومات السابقة ليبقى السؤال: ما المطلوب لنجدة هؤلاء الناس وهل لدى أى مسئول الشجاعة ليذهب هناك مع أولاده ؟
رسالة وجهها اليوم ساكني هذه المناطق – أغيثونا وارحمونا ربما دعوة منهم كانت سبب في إسقاط النظام البائد وما زلنا ندعو فاتقوا دعوة المظلوم.





الخميس، 28 فبراير 2013

ما قبل البداية

صباح جديد يحمل بين أشعته روتين أبدى لا ينتشلنى منه سوى بضع ساعات من النوم تحملنى إلى يوم أخر دون أن أشعر، تذكرت ما روادنى فى حلمى طمعاً فى نفى الملل فى هودج يجوب الصحراء بلا ناقة..نظرت لساعة الحائط وجدتها الثامنة صباحاً..انتزعت ملابسى من خلف باب غرفتى وتسللت عبر مرآته، المح هالات سوداء تسكن أسفل عينى بدون مقابل، أعتقد أنى وقعت لها إيجار قديم يوماً ما.

حملت فى يدى كتاب دراسى وجدته فى أرضية الغرفة، عبرت صفحاته الأولى بسلام وبعدها أخذنى لمكان أعرفه جيداً، ساحات كبيرة تَملئها تربةٌ صفراء، على جانبيها أشجار تنوى الرحيل لكنها مترددة فى التساقط لتـُفرز ما تبقى منها على ذكريات العاشقين.. مظلات تحوى فى ظلالها إناث يجلسن فى إنتظار شىء لا يعرفونه أو خُيل لهن كذلك..وذكور تلهث بشدة فى فراغ الأبنية..منهم من يغتصب سيجارة بلا رحمة وآخر يبتلع ريقه حين يشاهد أنوثة تتلوى كحية تبحث عن مأوى لها..وسلالم تحمل ثنائيات غريبة الأطوار تجلس بجانب بعضها توّحد معنى الإنسجام، كنت أخشى دائماً فعل شيئاً كهذا ربما لأن الثنائيات تأتى بمرض خطير يتفاقم مع الوقت؟! طالما تجنبتها واحتميت بوحدتى، فألمها يأتى على المدى البعيد..قد تُصيبك بالجنون، أو لعنة السواء حين تحتاج السبيل !!

أخذت أتجول داخل المبنى فوجدت أفعال لا تسر الحاضرين..صيغ جاهزة صُنعت قبل الميلاد تحتل أفواه قاطنى مكاتب الألوميتال البُنية..تلال من الأوراق تُعلن أنها صاحبة العرش بلا منازع, طيف من الأسئلة يتجدد كل دقيقة ويَمر مرور الكِرام بلا إجابات مُرضية, دفعنى فضولى أن أصعد الطوابق العليا..الطابق الثانى لا يختلف كثيراً عن الأول..والثالث يحظى بنصيب كبير من القاعات الفارغة شاهدت واحدة منها على عجلة وجدتها باهتة وقديمة وبها كراسى خشبية من النوع الرخيص  المُستهلك الذى يعرضه عليك صاحب فَرش الأفراح فى آخر خياراته حين تحاول أن تقتلع منه مبلغاً جديراً بإنفعاله.أما الطابق الرابع رأيت فى مقدمته لوحة مكتوب عليها " قسم الإجتماع / قسم الفلسفة "، رأيت لوحات مثلها فى الطوابق الأخرى لكنى لم اهتم بقراءة ما عليها..تحركت قليلاً حتى وقعت عينى على.....!!

سلوى..صاحبة ثانى صدمة فى الحياة، كانت جميلة كما هى، الشرور تعبث بنا أحياناً وتُجملّنا فترة أخرى ..هكذا قلت فى نفسى، رأيتها تتقدم تجاهى قبل أن يأتينى صوت من الخلف:

- ايه يا عم .. اتخرجت انت ونسيتنا

التفت لأرى من يحدثنى، وجدت إضاءة غرفتى تستغل جفونى المُنهكة وتتسلل إلى عينى، وأمى تقف بجانب الباب تقول لى:

- الساعة 6 يا مراد ، يلا بقى قوم عشان توصل بدرى.

أغمضت عينى لا إرداياً لمّا سقط الكتاب من يدى وجلست على الأرض أجر ظهرى بجانبى ، اتأمل غرفة غريبة غير التى كانت تعيش بداخلى من قبل..أوراق تعتلى الجدران عليها أشياء غريبة لم أقوى على قرائتها لمّا دققت النظر لها، مكتب ما زال مُحتفظ بوظيفته رغم ما فُعل به، وبرواز تخرج منه إبتسامة رقيقة تشبه إبتسامة سلوى..الباب ما زال مُغلقاً..والحقيقة ما زالت تائهة!!
 

يُتبع ...