" إلى كل الأشياء المعنوية التى لا تتقلص " هكذا كان إهداء يس على مجموعته القصصية التى صدرت منذ شهرين .
ذهب يس إلى صخرته المفضلة بكورنيش الإسكندرية ليحتفل وحيداً بصدور مجموعته التى تحوى خلاصة كل الأشياء المادية والمعنوية التى تقلصت فى حياته , وربما القادم أقوى فى التقلص والتلاشى !!
قرر يس أن يقيم حفل توقيع للبحر فقط , جلس على صخرته التى تؤنس وحدته دائماً , أخذ يقص عليها كل القصص التى كتبها فى مجموعته , وأحياناً كان يُضفى على الحكى التجربة الحقيقية التى جعلته ينزف بقلمه .
وبعدما انتهى من الحكى وضع مجموعته القصصية فى صندوق خشبى مكتوب عليه برقائق النحاس " إلى صديقى العزيز .. البحر .. أُبلغك أن كل الأشياء المعنوية تقلصت واختفت , أشكرك على كل شىء قضيته معك , وكل حكمة استخلصتها من صمتك , وكل هداية أرشدتنى إليها .. الوداع " ألقى يس الصندوق فى البحر وجلس يُهمهم للصخرة بكلمات لا يفهمها , كأنه يُقاتل ألم الحنين المُتوقع , كأنه يشعر بأنها أخر جلسة له هنا , بكى يس دون أن يشعر , وقتها كل المشاعر اتصلت , كل الجروح ظهرت وتكاتفت كى تَكسره حتى فى يوم نجاحه المُنتظر .
رائحة الذرة المشوى والبطاطا بجواره جعلته يتذكر أمه الحنون التى تركته وحيداً لتلتهمه حماقة وغباء البشر المتناهى , وأيادى الأطفال المتعلقة بأبائهم جعلته فى حالة مُتوهجة من الحنين إلى والده , كان يتمنى أن يكونوا معه فى هذا اليوم ليحتفلوا بمجموعته القصصية , لكنهم رحلوا مُبكراً , أو ربما هو الذى أتى بمجموعته متأخراً !
عاد يس إلى منزله , ووضع ما يقرب من عشر نسخ من مجموعته على منضدته المتهالكة التى تحوى كل أشيائه العتيقة الأصيلة التى لا يريد أن يتخلى عنها أبداً , ومن تحتها مفرش أمه القديم التى قامت بعمله وغزله أثناء دراستها فى المدرسة الثانوية , ليت كل الأشياء تحتفظ بأصالتها , هكذا كان يقول يس دائماً , حتى شريكة حياته التى لم يجدها حتى الأن كان يريدها أن تكون أصيلة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ سامية , فالجمال وحده لا يكفى والذكاء أيضاً لا يكفى , ربما الأصالة تكفى لأن تجعلنى سعيداً مع زوجتى ولكننى لا أعرف معنى دقيقاً للأصالة حتى الأن .
الدنيا جعلت يس يرتدى عباءة الحزن أكثر مما يجب , تمنى كثيراً أن يذهب للمكان الذى سيخلعها فيه وينعم بما افتقده هنا , يعتقد يس أن كل الأخطاء تولد قيصرياً بإيدينا وليست ولادة طبيعية بيد القدر , حملته أخطاء وتناقضات الأخرين هماً كبيراً جداً سترونه فى مجموعته بمنتهى الدقة .
الحكمة لا تأتى مفردة , دائماً وأبداً تأتى مع الشقاء لتكون بالغة وتُناسب الأقوياء القادرين على حملها وبعثها فى نفوس الأخرين , أو حتى بعثها فى أنفسهم فقط , الحكمة دائماً صعبة على حاملها , التفكير والتأمل المستمر يجعله يرى إجهاضات الفكرة ودعاماتها , الوجه الأسود والأبيض , الحكمة ليست سهلة , الحكمة فقط لمن يستطيع أن يتحمل عبئها .
أحضر يس لنفسه كوباً من الشاى احتمى بدفئه وجلس يقرأ بعضاً من الأشعار العامية التى كتبها طيلة حياته , كان دائماً يعتقد أن الشعر الأقرب إلى الناس هو الشعر العامى , يتحدث عنهم قبل أن يتحدث لهم , ظل يكتب شعره العامى بالرغم من تمكنّه من اللغة العربية فى كتابة القصة والمقال , ظل يكتب أشعاره دون أى فائدة فهى توجد الأن مع كل ذكرياته الموجودة فى الأدراج السُفلى لدولابه ولم ترى النور حتى الأن , أخذ يطالع بعضاً من شعره ثم جعله الحنين يُطالع كل ما مضى فأخذ يتجول بين ملامح الفوتوغرافيا التى تحمل كل السنوات الماضية فى جُعبتها , أخذ يتابع بسمات والده ونسمات والدته وكل روائع الخالق التى التقطها فى رحلاته الجامعية التى كان دائماً يجلس فيها وحيداً .
كان يوماً كئيباً جداً على يس , لكنه اعتاد أن يرى مثله كثيراً , لكن نهاية هذا اليوم كانت مُختلفة تماماً فقد لاحقته إبتسامات رائعة عندما وجد فى دُرج ذكرياته كل الصور النادرة التى جعلته يعود بالزمن سنوات وسنوات .
تمت ...
وكانت هذه أخر قصة كتبها يس , أراد فيها أن يؤدى دور الراوى ليتحدث عن نفسه بمنتهى الدقة , وطلب منى أن أضعها فى مجموعته فى طبعتها الثانية إذا نفذت الطبعة الأولى وتم عمل طبعة ثانية , كان قد أرسلها لى منذ أربعة أيـام فقط , وبالفعل نفذت الطبعة الأولى فى أسرع وقت وحققت مجموعته أعلى نسبة مبيعات خلال العشر سنوات الماضية , وعندما ذهبت لأخبره كانت قد وفته المنيّة وهو جليس الفراش وحوله بعض الصور القديمة ومجموعة أوراق متهالكة .
وشَرُفت أنا بأنى صاحب دار النشر التى نشرت تلك الرائعة وسعدت جداً بالتعامل مع الأستاذ يس الذى فى أقل وقت رأيت فيه أخلص صديق وأصدق جليس على وجه الأرض .. رحمه الله
مجلة أصالة المُنتهى
عدد شهر سبتمبر
2011
ذهب يس إلى صخرته المفضلة بكورنيش الإسكندرية ليحتفل وحيداً بصدور مجموعته التى تحوى خلاصة كل الأشياء المادية والمعنوية التى تقلصت فى حياته , وربما القادم أقوى فى التقلص والتلاشى !!
قرر يس أن يقيم حفل توقيع للبحر فقط , جلس على صخرته التى تؤنس وحدته دائماً , أخذ يقص عليها كل القصص التى كتبها فى مجموعته , وأحياناً كان يُضفى على الحكى التجربة الحقيقية التى جعلته ينزف بقلمه .
وبعدما انتهى من الحكى وضع مجموعته القصصية فى صندوق خشبى مكتوب عليه برقائق النحاس " إلى صديقى العزيز .. البحر .. أُبلغك أن كل الأشياء المعنوية تقلصت واختفت , أشكرك على كل شىء قضيته معك , وكل حكمة استخلصتها من صمتك , وكل هداية أرشدتنى إليها .. الوداع " ألقى يس الصندوق فى البحر وجلس يُهمهم للصخرة بكلمات لا يفهمها , كأنه يُقاتل ألم الحنين المُتوقع , كأنه يشعر بأنها أخر جلسة له هنا , بكى يس دون أن يشعر , وقتها كل المشاعر اتصلت , كل الجروح ظهرت وتكاتفت كى تَكسره حتى فى يوم نجاحه المُنتظر .
رائحة الذرة المشوى والبطاطا بجواره جعلته يتذكر أمه الحنون التى تركته وحيداً لتلتهمه حماقة وغباء البشر المتناهى , وأيادى الأطفال المتعلقة بأبائهم جعلته فى حالة مُتوهجة من الحنين إلى والده , كان يتمنى أن يكونوا معه فى هذا اليوم ليحتفلوا بمجموعته القصصية , لكنهم رحلوا مُبكراً , أو ربما هو الذى أتى بمجموعته متأخراً !
عاد يس إلى منزله , ووضع ما يقرب من عشر نسخ من مجموعته على منضدته المتهالكة التى تحوى كل أشيائه العتيقة الأصيلة التى لا يريد أن يتخلى عنها أبداً , ومن تحتها مفرش أمه القديم التى قامت بعمله وغزله أثناء دراستها فى المدرسة الثانوية , ليت كل الأشياء تحتفظ بأصالتها , هكذا كان يقول يس دائماً , حتى شريكة حياته التى لم يجدها حتى الأن كان يريدها أن تكون أصيلة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ سامية , فالجمال وحده لا يكفى والذكاء أيضاً لا يكفى , ربما الأصالة تكفى لأن تجعلنى سعيداً مع زوجتى ولكننى لا أعرف معنى دقيقاً للأصالة حتى الأن .
الدنيا جعلت يس يرتدى عباءة الحزن أكثر مما يجب , تمنى كثيراً أن يذهب للمكان الذى سيخلعها فيه وينعم بما افتقده هنا , يعتقد يس أن كل الأخطاء تولد قيصرياً بإيدينا وليست ولادة طبيعية بيد القدر , حملته أخطاء وتناقضات الأخرين هماً كبيراً جداً سترونه فى مجموعته بمنتهى الدقة .
الحكمة لا تأتى مفردة , دائماً وأبداً تأتى مع الشقاء لتكون بالغة وتُناسب الأقوياء القادرين على حملها وبعثها فى نفوس الأخرين , أو حتى بعثها فى أنفسهم فقط , الحكمة دائماً صعبة على حاملها , التفكير والتأمل المستمر يجعله يرى إجهاضات الفكرة ودعاماتها , الوجه الأسود والأبيض , الحكمة ليست سهلة , الحكمة فقط لمن يستطيع أن يتحمل عبئها .
أحضر يس لنفسه كوباً من الشاى احتمى بدفئه وجلس يقرأ بعضاً من الأشعار العامية التى كتبها طيلة حياته , كان دائماً يعتقد أن الشعر الأقرب إلى الناس هو الشعر العامى , يتحدث عنهم قبل أن يتحدث لهم , ظل يكتب شعره العامى بالرغم من تمكنّه من اللغة العربية فى كتابة القصة والمقال , ظل يكتب أشعاره دون أى فائدة فهى توجد الأن مع كل ذكرياته الموجودة فى الأدراج السُفلى لدولابه ولم ترى النور حتى الأن , أخذ يطالع بعضاً من شعره ثم جعله الحنين يُطالع كل ما مضى فأخذ يتجول بين ملامح الفوتوغرافيا التى تحمل كل السنوات الماضية فى جُعبتها , أخذ يتابع بسمات والده ونسمات والدته وكل روائع الخالق التى التقطها فى رحلاته الجامعية التى كان دائماً يجلس فيها وحيداً .
كان يوماً كئيباً جداً على يس , لكنه اعتاد أن يرى مثله كثيراً , لكن نهاية هذا اليوم كانت مُختلفة تماماً فقد لاحقته إبتسامات رائعة عندما وجد فى دُرج ذكرياته كل الصور النادرة التى جعلته يعود بالزمن سنوات وسنوات .
تمت ...
وكانت هذه أخر قصة كتبها يس , أراد فيها أن يؤدى دور الراوى ليتحدث عن نفسه بمنتهى الدقة , وطلب منى أن أضعها فى مجموعته فى طبعتها الثانية إذا نفذت الطبعة الأولى وتم عمل طبعة ثانية , كان قد أرسلها لى منذ أربعة أيـام فقط , وبالفعل نفذت الطبعة الأولى فى أسرع وقت وحققت مجموعته أعلى نسبة مبيعات خلال العشر سنوات الماضية , وعندما ذهبت لأخبره كانت قد وفته المنيّة وهو جليس الفراش وحوله بعض الصور القديمة ومجموعة أوراق متهالكة .
وشَرُفت أنا بأنى صاحب دار النشر التى نشرت تلك الرائعة وسعدت جداً بالتعامل مع الأستاذ يس الذى فى أقل وقت رأيت فيه أخلص صديق وأصدق جليس على وجه الأرض .. رحمه الله
مجلة أصالة المُنتهى
عدد شهر سبتمبر
2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق