الجمعة، 23 سبتمبر 2011

كارمينى .. قصة قصيرة

نزلت مُسرعاً كى لا يفوتنى القطار , ويصبح يومى كئيباً من بدايته وأجلس كعادتى ألعن الظروف التى أتت بى فى هذه البلدة الموحشة التى تشعرنى بأضعاف شعور الغربة , فلكم التهمنى إحساسى بالإشتياق والحنين إلى بلدتى وبيتى وفراشى وغرفتى المُهملة وأصوات جيرانى المزعجين , وجلسات الليل العائلية فى صحبة مذياع أبى القديم على أصوات شجن مصر الأصيل أم كلثوم .

توقفت لحظة حنينى المُتوهجة لملاذى الأصيل حين رأيت السيدة كارمينى قادمة علىّ , جارتى السيدة كارمينى رائعة ملائكية لا يمكننى وصفها كباقى البشر , تحبنى كثيراً ونتسامر سوياً فى أوقات فراغى وتنصحنى كثيراً فى حياتى بحِكمتها البالغة , وأساعدها كثيراً فى أمور حياتها لكبر سنها , اعتادت كارمينى ان تنادينى بـ " صغيرى " ,, أحبها جداً كارمينى , أرسلها لى القدر لتُهوّن علىّ ظروف الغربة الُمصرة على جعلى كئيب من الدرجة الأولى . كم تمنيت أن تكون دراستى فى مكان أقرب حتى أستطيع أن اطمئن على أسرتى وإخواتى , وحتى لا يقلق أبى علىّ , فهو شديد القلق هو وامى , امى دائماً كانت تقول " فى زماننا هذا يجب أن نخف على الصبية أكثر من الفتيات " , وكان أبى لا يستطيع النوم حتى نعود أنا واخى إلى المنزل , ويُغلق متاريس بيتنا وينام .

وها هى كارمينى تُهوّن علىّ كل هذا الألم والحنين بإبتسامتها العجوز المُشرقة التى تشبه إبتسامة فتاة فاتنة فى العشرينات , تطل دائماً بسحرها كل صباح علىّ وتسألنى إذا كنت بحاجة لها , اما اليوم فقد جائت لتخبرنى أنها ستذهب لشراء بعض لوازمها من السوق وانها تريد ان توصلنى معها فى سيارتها , فالسوق يُبعد قليلاً عن الجامعة التى أدرس بها .

صوتها الحنون وعيناها الرائعتان المحدبتان وشعرها الأشقر الإنسيابى وكل روائعها أطلت علىّ بإطلالة غير عادية فى هذا اليوم , وقالت لى بصوت رقيق خافت , كيف حالك يا صغيرى .. لعلك بخير ؟
رددت وعلى وجهى إبتسامة مطمئنة .. بخير سيدتى , كيف حالك أنتِ
" بخير يا صغيرى , هل انت ذاهب للجامعة ؟ "
نعم .. بإذن الله سيدتى الجميلة
" أنا ذاهبة للسوق , تعالى معى أوصلك فى طريقى "
فأمأت برأسى بالموافقة , وركبنا سيارتها القديمة التى عمرها يقرب عُمر كارمينى , أخبرتنى أن والدها قد اشتراها بعد ميلادها مباشرة وكان لا يريد بيعها أبداً , ومات وتركها لكارمينى وتمسكت بها أيضاً لأنها أخر شىء ملموس تبقى من أبيها , كارمينى كالجبل تحملت كثيراً فى حياتها , كل من أحبتهم رحلوا عنها فى لمح البصر , تَغيّبوا عن الصفحات فى ساعة واحدة فى حادث مُريب .
بمُجرد ركوبنا السيارة , لاحقتنى بصوت دقيق وجاد ,, كيف حال الدراسة
رددت بخير ,, فقالت بحزن وإرهاق وكيف أخبار بلدتنا معك ؟
وقبل أن أجيب بادرت بهذه النصيحة الغريبة التى برغم سماعها كثيراً منها إلا انها هذه المرة كانت غريبة جداً وتثير الفضول , كان جوفها يتألم , وعيناها تلمعان , شُعرت بشىء غريب , قالت بصوت رقيق " أتمنى أن تحاول ان تتأقلم مع الوضع الحالى , اترك ما مضى , حب الحياة , جدد ايامك ومارس أشياء جديدة , اذهب للصيد أو لمشاهدة مباريات كرة القدم , لا تترك نفسك هكذا "
قلت لها .. لماذا تقولين لا تترك نفسك هكذا ؟ ...
وقبل أن أُكمل أستكملت حديثها بلمعان أقوى فى عينيها وصوت هش يريد الرحيل , قالت اسمع لابد ان تفعل ذلك , لم يبق الكثير .
هيا لقد وصلنا للجامعة , أراك فى أمسية اليوم , ساُكمل أنا طريقى للسوق وسوف أعود على الفور .

وفى هذه اللحظة لمحت كارمينى تغمض عينيها بين الحين والأخر ويبدو عليها الإرهاق فسألتها أن أوصلها لأنها تبدو مُرهقة جداً وربما لا تستطيع قيادة السيارة .
فرفضت وقالت " لا اذهب انت لدراستك , وانا سأذهب وحدى , سأذهب وحدى "
فابتسمت لها وسألتها إذا كانت تريد أن تدخل معى لأعرفها على حبيبتى التى احكى لها دوماً عنها . فقالت مرة أخرى .
" كما تريدين سيدتى العجوز كارمينى " هكذا رددت عليها بإبتسامة مُشرقة تشبه إبتسامتى لحبيبتى التى سأراها بعد دقائق , انتعش هكذا كلما تذكرتها أو أتت سيرتها أو قبل رؤيتها .
" سيدتى العجوز , اما زلت مُصر " هكذا همهمت كارمينى ولم أفهم ما قالت .
ورحلت كارمينى ذاهبة للسوق , وذهبت أنا قاصد المقهى المقابل للجامعة الذى اعتدنا أن نجلس فيه دائماً , كان معادنا فى تمام الثامنة صباحاً وقد وصلت أنا مُبكراً بفضل كارمينى , أصبحت كارمينى هى البلدة التى أعيشها هنا , جعلتنى أرى كل الأشياء كارمينى .

وصلت أنا المقهى الساعة الثامنة إلا عشر دقائق , أخرجت دفتر كتاباتى من حقيبتى وبدأت أُدون بعض همساتى لحبيبتى وبعض الحماقات التى أراها فى الحياة , دائماً ما أرى نفسى سأكون مُفكراً وحكيماً يوماً ما لكنى لا أعرف متى سيأتى هذا اليوم , أعى جيداً أن الحكمة ليست لقب ولكنها منهج وأنا لا أعرف إذا كنت اتبعه فى حياتى أم لا , لكنى أرى كل الأشياء المعنوية تتقلص وتتلاشى وتسمو إلى خالقها , والبشر يتعمدون البقاء فى ارتكاب الحماقات ربما فطرتهم هكذا .. ربما !

أبحرت فى كتاباتى التى دائماً يغلب عليها طابع الكأبة القاتم , كان اخوتى دائماً يسموننى بالكئيب واعتدت أنا على الكأبة ربما أجد نفسى بين ملامحها , التصقت بى وأصبحت معى دائماً , لكن اخوتى ليسوا معى , اشتاق لهم كثيراً وافتقد أبى وأمى أكثر .

لم اهتم بالوقت أثناء الكتابة ولكنى شعرت أن حبيبتى قد تأخرت وبالفعل وجدت الساعة الثامنة والنصف , التمست لها الأعذار فى تأخيرها وواصلت الكتابة فى إنتظارها , ولمحت فى المقهى كل رموز الحب جالسة فى لوحات فنية تعبر عنها الأشواق بمُنتهى الروعة على كل طاولة , كل المعانى تتألف حولها لتأتى بالمعنى الحقيقى الأبدى الذى أعرفه جيداً أنا وحبيبتى , ظل الأشجار يطل عليهم من النوافذ ورائحة خريفية ترسم النسمات فى الهواء , موسيقى هادئة فى المقهى , هدوء تام من طاقم عمل المقهى , جواً ساحراً تأملته لحظات ونظرت للساعة فوجدتها تمت التاسعة , فأدركت انها لن تأتى , ربما هناك ظرفاً طارئاً تسبب فى عدم مجيئها . وضعت دفترى فى حقيبتى وتركت حساب المشروب على الطاولة ورحلت .

ركبت تاكسى من أمام المقهى , كان السائق يسير بسرعة جنونية , وصلت بحمد لله إلى المنزل وكانت أسرع مرة أصل فيها بسبب هذا السائق المُختل .
ووجدت سيارة كارمينى , وتعجبت لعودتها مُبكراً , سمعت همهمات عالية وأصوات كثيرة وأنا فى الخارج , لمحت أناس يلتفون حول بيت كارمينى , ذهبت لهم مُسرعاً , الرجال يبكون فى صمت والنساء جيراننا يبكون ويتأملوننى ويحدقون فىّ بشكل عجيب , التفت على يمينى لأجد الصاعقة , وجلست بجوارها كلى أمل أن يكون ما فهمته كله خاطىء , جلست أخاطبها , كارمينى ماذا بكِ , لا ترحلى من سيقضى معى أمسياتى ويسمعنى , من سيطل علىّ بإبتساماته المُشرقة , كارمينى .. كارمينى .. كااااااااااارمينــى  !!

أجهشت فى البكاء , وحاول أحد جيراننا أن يواسينى ويجعلنى اهدأ , لكنه لم يحدث ودخلت أتجول فى المنزل أبحث عن كارمينى , ربما يعبثون معى وكارمينى ما زالت موجودة , لم أكن اتخيل انها حقيقة .. كارمينى رحلت .
جلست فى غرفة نومها , مُنكس الرأس أشعر بكل خيبة الأمل فى هذه الدنيا القاسية , وسمعت حوار بين اثنتان من جيراننا لم أعرف من هم , قالت واحدة : ها هى كارمينى ظلت بجواره سنوات وهو ما زال فى عالمه فقالت لها الأخرى ماذا تعنى ؟
فقالت : أتت كارمينى هنا بعد حادثة أهلها وكان عمرها 22 عاماً لم يتبق لها أحد فى الحياة غير ذلك الشاب الذى تحبه حباً صامتاً , أتت لتسكن هنا بجواره بعد أنا ماتت حبيبته فى الجامعة , قد تكلمت معى كارمينى بخصوص ذلك من قبل , كنت قريبة جداً منها , كانت تعشقه لأبعد حد .

لم تستوعب أذناى ما سمعت , هول الصدمة الثانية المباشرة كان أقوى من كل شىء رأيته فى هذه الحياة منذ أن جئت لها , لم تستطع قدماى النهوض ونظرت صامتاً فى المرآة لمحت شعر رأسى أكثره غلب عليه الشيب وأصبح لونه أبيض , وكأن المرآة كانت تكذب علىّ طوال هذه الفترة وعكست المرآة بجوار شعرى فى صورتها جملة كتبتها كارمينى على الحائط  .
" 30 سنة فى حُبك وما زلت انت فى عالمك الذى لا تريد أن تقتنع بحقيقته وتراها , ليتك أتيت ولو لمرة واحدة عالمى , ثلاثون عاماً ترانى عجوز "

جلست أردد " كارمينى لم تكن ذاهبة للسوق , كارمينى أتت لتودعنى قبل أن ترحل "
رددتها أكثر من مرة حتى أغشى علىّ .

نقلونى الجيران إلى بيتى , استيقظت على صوت المنبه فى اليوم التالى فى الساعة السابعة صباحاً ولكنى لم انهض من فراشى فقد أدركت واقعى الأليم , وقمت بضبط المنبه على الساعة التاسعة , استكملت نومى فى درجة رائعة من اللاوعى , هذا هو الحل أمام هذه الحقيقة المُرة , لم تعد توجد حلول , الحياة تكاتفت مع كل شىء لتضع لى إختبار صعب جداً فى الصمود وها أنا أعلن فشلى بجدارة , رن المنبة فى تمام التاسعة وظل يرن ولكنى لم استيقظ ورحلت لواقعهم هم .

كنت أتمنى أن تكون النهاية هكذا ولكنى استيقظت وما زلت حياً أُرزق عذاب مُضاعف !!

ليست هناك تعليقات: